دت عودة جمال مبارك إلى المسرح هزلية تماما، وفي صورة خبر عن تكوين 'الائتلاف الشعبي المصري لدعم ترشيح جمال مبارك'، بينما القصة كلها هواء في هواء، فلا 'ائتـــــلاف' ولا 'شعبية' ولا 'مصرية' في الموضوع كله، بل فقاعة من بضعـــــة أفراد ممن لا ذكر لهم، اعتادوا طلب الرزق الشحيح من عابري السبـــــيل، ووجــــدوا في النفــــاق العبثي تقــــربا وطاعة، ووجدوا في اسم جـــمال مبارك لعبـــة مسلية قد تفيد الجــــيب وتشــــيع الذكـــر، وفوجئوا بتنكر قادة 'الحزب الوطني'، وإلى حد أن اعتبر علي الدين هلال، أمين إعلام الحزب، أن الحديث عن ترشيح أحد آخر في وجود الرئيس مبارك هو ببساطة وبنصه الحرفي 'قلة أدب'.
بدت ردة فعل قادة الحزب الوطني مفهومة، فلا أحد يعرف بالضبط ماذا يجري في بيت الرئاسة؟ والرئيس مبارك نفسه معلق بأقداره، خصوصا مع تدهور الصحة وتسارع العد التنازلي، وليس من إجابة رسمية معلنة عن سؤال الترشح للرئاسة، اللهم إلا على طريقة القــــفز في الهواء، وترحــــيل الجواب إلى شهر تموز/ يوليو 2011 على مســــؤولية مفيد شهاب وزير الـــــدولة للشـــؤون القانونية، أو طــلب الصمت في الموضوع، والتنبيه المزاد المنقح إلى أن القصة كلها من اختصاص الرئيس مبارك وحده، وتجنب الفتوى في قصة جمال مبارك، فهم لا يستطيعون مهاجمة ابن الرئيس، ولا يتحمسون لتزكيتـــه في الوقت نفسه، بينما جمال مبارك نفسه يراوح بين الظهور والتخفي، ويثير أنصاره تكهنات عن عودته إلى الواجهة، واحتمال تعيينه رئيسا رسميا خلفا لأبيه، ولكن من دون أن يتورط أحد في تصريح علني خشية العقاب الخفي.
وبعيدا عن التصريحات الرسمية المرتبكة المتلعثمة، تبدو عودة جمال مبارك، أحيانا، إلى مقدم المسرح صناعية ومفتعلة تماما، فقد تراجع سيناريو التوريث الرسمي للرئاسة بشدة في الشهور الأخيرة، وإن لم يختف الخطر تماما، ومنذ آب/ أغسطس 2009، تاريخ آخر زيارات مبارك الأب إلى واشنطن، وقد جرت بالتوازي مع زيارة لمبارك الابن إلى مهبط الوحي السياسي، منذ هذا التاريخ، جرى تحول رئيسي في الصورة، اختفي الابن الموعود بالتوريث في غالب الأحيان، وتزايد حضور الأب، وبدأ بحسم القرار حول فكرة كانت مطروحة للتبكير بحل مجلس الشعب سنة كاملة، كانت الفكرة مدفوعة بضغط من جمال مبارك وجماعة البيزنس المؤيدة له، وتريد أن تستبق الأقدار، وتتحسب للتدهور اللاحق في صحة الرئيس الأب، وبرغبة التعجيل بإتمام إجراءات التوريث على حياة عين الأب، لكن قرار الرئيس الأب جاء في الاتجاه المعاكس، وقرر إلغاء الفكرة بعد تردد طويل لمدة شهرين، وبدت خطوة الأب كأنها تصادر طموحات الابن، ثم تواترت التسريبات من بيت الرئاسة عن شجارات عائلية، وعن خفض نفوذ السيدة سوزان الداعمة لتوريث ابنها، ثم تكررت وتكاثفت زيارات الرئيس الأب لوحدات الجيش، وفيما بدا كإشارة لترجيح كفة جماعة الأمن وأولويتها على جماعة البيزنس، بدت جماعة الأمن (في الجيش والمخابرات والأمن الداخلي) كأنها تستعيد زمام المبادرة، وتدفع في اتجاه التمديد لرئاسة الأب، وتفتح النار في الكواليس على فساد جماعة الابن، وتخوف من عواقب سيناريو التوريث الرسمي للرئاسة، وتحذر من انفجار شعبي لا تحتمله أوضاع مصر المرهقة، وبدا كأن الأب قد انتصر في معركة ضمنية مع الابن، وجرى تسريب أنباء، باسم مسؤولين كبار، عن اتجاه النية لترشيح الأب لرئاسة سادسة في ايلول/سبتمبر 2011، ثم جرى تسريب تكهنات غير رسمية عن اتجاه النية لتصعيد سياسي لجنرالات، وبدت القصة كلها كأنها صدام في الظلام بين نفوذ الجيش القديم ونفوذ العائلة المستجد.
لكن الأقدار كان لها رأي آخر، وبدت صدمة وفاة حفيد الرئيس ظاهرة الأثر، وتزايدت امارات القلق على صحة الرئيس العجوز، ولم يزل القلق مع إزالة مرارة الرئيس في هايدلبرج بألمانيا، وبدت تقارير الصحافة الأمريكية بالذات معبرة عن حرج اللحظة، فواشنطن في غاية القلق على وضع الحكم في القاهرة، خاصة أن مصر هي أكبر مرتكز أمني للسياسة الأمريكية في المنطقة، وقد أنفقت واشنطن على دعم نظام مبارك ما يزيد على ستين مليار دولار في الثلاثين سنة الأخيرة، وهي لا تهتم بمبارك الأب كشخص، ولن تكلفها وفاته، حين تحدث، غير برقيــــة عزاء باهتة أو حارة، وكل ما يهمها هو تحصين المصالح الدائمة، وطريقــــة ترتيب الخـــــلافة في قصر الرئاسة، وقد لا تمانع في تولى جنرال للرئاسة ضمانا لاستقرار أمــــــني، وهــــو ما ترجـــح كفته الآن على ما يبدو، وإن بدت السيناريوهات غامضة، فثمــــة أكــــثر من اسم مطروح في الكواليــــس، وثمة أكثــــر من طريقة، بينها تفضيل أن تتــم القصـــة كلها من خـــلال عــــباءة مبـــارك نفسه، وأن يبدو الرئيس مبارك في كامل عافيته ونشــــاطه، وقــــــادرا على تخطي حاجز الموعد الرئاسي، ثم يجــــري ترتيب الخلافة، ومع سيناريوهات احتــــياط للمفاجآت، بينها احتمال تعيين جنرال سابق، خرج للحياة المدنية، في منصــــب رئيس الوزراء وعضوية المكتب السياسي للحزب الوطني، وتوفير شرط الملاءمة مع أحكام الدستور بصدد الموقع الرئاسي في حالات العجز والوفاة.
أين جمال مبارك، إذن، في القصة كلها؟ خاصة أن الترتيبات النهائية كانت معدة في الأصل لصالحه، من نوع القفز إلى منصب رئيس الوزراء، ثم رئيس الجمهورية، وكان ذلك، فيما بدا، استطرادا وتتويجا لنفوذه الملموس، فهو شريك فعلي في صلاحيات الرئاسة منذ سبع سنوات مضت، فقد عينه أبوه في قيادة الحزب الوطني مع مطلع الألفية الثالثة، ثم أنشأوا له لجنة الســــياسات في سنة 2002، وجعلوه فوق الوزراء ورئيس الوزراء نفســـه، وكان القوة الدافعة وراء قرار خفض سعر الجنيه المصري للنصف في أوائل 2003، ثم شريكا بالمناصفة مع مبارك الأب في تشــــكيل وزارة أحمد نظيف في أواسط 2004، وذهب في زيارات سرية إلى واشنطن للقاء بوش وطاقــــمه في عامي 2003 و2006، وجرى التوافق الضمني، من قبل ومن بعد، على أن يظل ملف الأمن في يد الرئيس الأب، فيما انتقل ملف الاقتـــــصاد إلى يد الرئيس الابن، ووضعت السيدة ســــوزان يدها على ملـــــف الخدمــــات، وفي عام 2007، جرى دفع سيناريو التوريث العائلي إلى منتــــهاه، جرى تغيير الإطار الدستوري بتعديـــــلات شاملة في آذار/مارس 2007، وجرى تغيير النظام الداخلي للحزب الوطــــني في تشــــرين الثاني/نوفمبر 2007، جرت التغييرات على مقاس جمال مبارك بالذات، وقد أصبح ممكنا ترشيحه من خلال عضويته المضافة بالهيئة العليا للحزب الوطني، وأصـــبح نجاحــــه آليا مضـــــمونا مع إنهاء الاشراف القضائي الكامل على الانتخابات، وتحــــويل الانتخابات إلى مواسم تعيينات إدارية، ولم يبق غير أن يصدر مبارك الأب قرارا بتعيين نجله رئيسا، وهنا بدت المفارقة الساخرة، فقد مشت خطوات سيناريو التوريث كالسكين السالكة في قطعة الزبد، لكن التتويج الرسمي تأخر، ثم تعثر مع تعثر صحة الرئيس، ثم مع تزايد حدة الاحتقان في مصر بأثر من سياسات فريق جمال نفسه، ولم يعد لجمال مبارك من نصير علني ضاغط سوى إسرائيل، التي تريده خلفا لأبيه، وحتى تطمئن لدوام السيطرة على صناعة القرار في القاهرة، بينما واشنطن لا تتحمس لجمال مبارك بنفس القدر، وتفضل التعامل مع المؤسسات الأمنية، وتتخوف، مع اسرائيل، من انفلات الأمور في مصر، ومن أي انتخابات حرة ستأتي حتما بتيارات معادية للسياسة الأمريكية الإسرائيلية.
والمحصلة إذن، أن قصة جمال مبارك تتعثر، وأن عودته إلى المسرح أحيانا، أقرب إلى 'حلاوة الروح'، وليس إلى 'عودة الروح' لسيناريو التوريث الرسمي للرئاسة، ومن الآن وحتى موعد التجديد الرئاسي في أواخر2011، يبدو المجال متسعا لتضاغطات داخلية عنيفة بين عناصر جماعة الحكم في مصر، في عائلة الحكم ذاتها، ومن حولها جماعة الأمن وجماعة البيزنس، وفيما تنشغل جماعة الأمن بترتيبات الخلافة الآمنة، فإن جماعة البيزنس قد لا تجد، في نهاية المطاف، غير ترتيبات الهروب الآمن لجمال مبارك.