من أسماءها يثرب : قيل سميت بذلك ، لأن أول من سكنها بعد الطوفان هو يثرب بن قانية بن مهلابيل بن آرم بن عبيل بن عوض بن أرم بن سام بن نوح .
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسمية المدينة بيثرب ، لأنها مأخوذة من الثَّرب ، وهو الشتم والسبّ ، وفي الحديث : " من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله وهي طابة " .
ومن أسمائها أيضاً " أرض الله " : لقوله تعالى : { ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها } ، ذكر مقاتل والثعلبي وغيرهما : أن المراد بها المدينة المنورة .
ومن أسمائها " حَسَنَة " : لقوله تعالى : { لنبوئنهم في الدنيا حسنة } ، قال المفسرون : هي المدينة.
ومن أسمائها " أكّالة القرى " : لحديث الصحيحين : " أُمْرتُ بقرية تأكل القرى " .
ومن أسمائها " الحبيبة " لحبه صلى الله عليه وسلم لها : " اللَّهم حبّبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد " .
ومن أسمائها " حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم " : في الحديث : " من أخاف أهل حرمي أخافه الله " .
ومن أسمائها " طابة وطيبة " .. ولها أسماء كثيرة .
** أول من سكن المدينة :
أولاً : قيل إن بني قيلة وهم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختصهم الله بتلك الصحبة ، والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرجوا خوفاً من سيل سد مأرب ، ونزلوا على يهود بيثرب ، ذلك أن جدَّهم كان ملكاً على أهل مأرب ، من بني كهلان وحمْير ابني سبأ ، وكان له من الأموال والقصور ما لم يكن لأحد ، فرأى أخوه عمران ، وكان كاهناً أن بلادهم ستخرب ، فذكر له ذلك ، فاحتال على قومه حتى باع أملاكه ، وخرج من البلاد قبل خرابها ، وخرج معه بعض قومه فنزلوا بيثرب على اليهود ، فساموهم الخسف أول الأمر ، حتى أنقذهم مالك بن العجلان من ذلك في خبر يطول ذكره .
ثانياً : قيل إن الأنصار من بقية علماء كانوا مع الملك تُبّع أسعد أبي كريب ، الذي حارب المدينة فعجز عنها ، وأخبره العلماء بأنها مهاجر آخر نبي ، فتركها ونقش رسالة في لوح من الحديد ، أمر أن يوصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يعطيه هذا لهذا إلى أن أعطاه أبو أيوب الأنصاري لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان منقوشاً فيه :
شهـدتُ لأحمـد أنـه نبي من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيراً له وابن عم
وقد أكثر النسّابون والإخباريون فيمن سكن المدينة ، واختلفوا في ذلك اختلافاً كثيراً ، ولكن من الثابت عند الجمهور أن أكثر سكان طيبة الطيبة هم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بغض النظر عن الظروف التي أوصلتهم إلى المدينة .
** فضل المدينة :
لا مراء بين علماء المسلمين على فضل مكة والمدينة على جميع بقاع الأرض ، وورد في فضلها الكثير ، ويكفي المدينة من الشرف والفضل أنها دفن بها أفضل خلق الله ، رسول الله صله الله عليه وسلم ، وبها بقعة من الجنة يقيناً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " .
وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها " .
وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموت فيها لنيل شفاعته ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل فإني أكون له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة " .
وفي الحديث : " إن الإيمان لرأز إلى المدينة كما ترأز الحية إلى جحرها " .
وأحاديث تحريم المدينة كثيرة جداً ، منها ما أخرجه مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عُضاهها أو يُقتل صيدها " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ، ولا يثبت أحد على لوائها وجهدها إلا كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة " .
وجاء أيضاً في الحديث الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حرم ما بين لابتي المدينة على لساني " .
** حدودها وحرمها :
حرّم النبي صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة ، اللابتان : الحرتان الشرقية والغربية ، قال ّ نقلاً عن المازري : وقال الأصمعي : اللابة : ذات الحجارة السود ، وجمعها في القلّلة لابات ، وفي الكثرة لوب .
وجاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " ما بين لابتي المدينة حرم ، ومن انتهك حرمة شيء من ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " .
وحدود المدينة : من عير جنوباً إلى ثور شمالاً .
عير : جبل في الناحية الجنوبية من المدينة ، ويقع بالقرب من الميقات ( آبار علي ) .
وثور شمالاً : جبل صغير خلف جبل أحد ، يأتي على يسار المتجه من المطار عن طريق غير المسلمين .
وحرمها من الشرق إلى الغرب ما بين الحرتين الشرقية والغربية .
والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مضاعة الأجر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " .
غير أن مضاعفة الأجور في الحرمين الشريفين ، المنصوص عليها في الحديث آنف الذكر وغيره ، تختلف في المسجدين المكي والمدني .
ولا شك بين علماء المسلمين أن مضاعفة الأجر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروطة بوقوع الصلاة به ، وليس هناك دليل على مضاعفة الأجر في حرم المدينة ، وليس كذلك بالنسبة لحرم مكة المكرمة ، ذلك أن مضاعفة الأجر حاصلة بنص الحديث للمسجد الحرام.
وحرم مكة جميعه يطلق على المسجد الحرام ، بدليل قوله تعالى : { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام .. } الآية ، ومعلوم أن الصلح وقع بالحديبية علىحدود حرم مكة ( وقريب الشيء يُعطى حكمه ) ، وبدليل قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام .. } الآية ، وأصح الأقوال أن الإسراء وقع من هضبة أجياد من بيت أم هانيء بنت أبي طالب ، وبدليل قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ..} الآية ، ومعلوم أن حرمة القتال واقعة في جميع حرم مكة .
وكذلك يُطلق مقام إبراهيم أيضاً على جيمع حرم مكة ، بدليل قوله تعالى : { مقام إبراهيم ومَن دَخَلَه كان آمناً } . ومعلوم أن الأمن حاصلٌ لكل من دخل حرم مكة ، إلأ غير ذلك من الأدلة أن حرم مكة كله يُطلق عليه المسجد الحرام ، وأن مضاعفة الأجر حاصلة بالنص في المسجد الحرام .
وقد ذكر ابن القيم في " زاد المعاد " : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام مقامه بالحديبية كان يتحرى بصلاته حتى يتجاوز أعلام الحرم ، فإن صح ذلك كان دليلاً واضحاً أن مضاعفة الأجر حاصلة في جميع حرم مكة ) .
** قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة :
قدم صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول ، فنزل في قباء عند كلثوم بن الهدم ـ رضي الله عنه ـ ومكث بقباء أربعة أيام كان يجلس فيها للناس بدار سعد بن خيثمة ، شهيد بدر ، وكانت داره ـ رضي الله عنه ـ تُدعى " دار العزَّاب " ، وفي هذه الأيام علَّم صلى الله عليه وسلم موضع مسجد قباء بأحجار ، وكان يصلي فيه ، وفي يوم الجمعة توجه من قباء إلى المدينة ، فاعترضه بنو سالم بن عوف وقالوا : عندنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العز والمنعة ، فمكث عندهم ذلك اليوم ، وصلَّى بهم الجمعة ببطن رانوناء ، فهي أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي آخر ذلك اليوم توجَّه إلى المدينة ، فكان لكما مرّ بحي من الأنصار مسكوا بزمام راحلته ، وقالوا : إلينا يا رسول الله في العز والمنعة ، فيقول صلى الله عليه وسلم : " دعوها فإنها مأمورة " يعني ناقته ، حتى وصل إلى محل مسجده صلى الله عليه وسلم ، فبركت الناقة ، ثم قامت وذهبت إلى منزل أبي أيوب فبركت ، ثم قامت فرجعت إلى الموضع الذي بركت فيه أول مرة فبركت ، ثم حلحلت فنزل عنها صلى الله عليه وسلم ، وأخذ أبو أيوب بخطامها إلى منزله ، فقضى صلى الله عليه وسلم بدار أبي أيوب سبعة أشهر .
وبعد أسبوعين فقط من مقدمه المدينة اشترى مربداً وكان ليتيمين من بني النجار ، كانا في حجر عوف بن عفراء ، هما : سهل وسهيل ، اشتراه بعشر أوقا ، وشيّد فيه مسجده ، واشترك في بنائه مع أصحابه رضوان الله عليهم ، فكان بعضهم أُثناء بنائه يرتجز بقوله :
لئن جلسنا والنبي يعمل لكان منا العمل المضلل
جعل صلى الله عليه وسلم أساس ذلك البناء من الحجارة ، وأقام جدرانه من اللبن ، وأعمدته من جذوع النخل ، وسقَّفه بالجريد ، وكانت قبلة المسجد النبوي إلى بيت المقدس في الجهة الشمالية.
وبلغت مساحته سبعون ذراعاً في ستين ذراعاً ، وارتفاعه خمسة أذرع ، وكانت له ثلاثة أبواب ، وتتوسطه رحبة .
وفي العام السابع من الهجرة ، وبعد فتح خيبر ، كثر عدد المسلمين وأخذت الدعوة في الانتشار والنماء ، واستعت رقعة الأرض الإسلامية ، فازداد روّاد المسجد النبوي وضاق بالمصلين ، فزاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناحية الشرقية ، والغربية مائة ذراع في مائة ذراع ، ورفع جدرانه سبعة أذرع ، وبذلك بلغت مساحته 2475م2 .
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهة الشمالية ، نحو بيت المقدس سبعة عشرة شهراً ، وبعد تحويل القبلة سُدَّ الباب الجنوبي في المسجد ، فأصبح للمسجد ثلاثة أبواب : باب من الشمال ، وباب في الشرق ( باب جبريل ) ، وباب في الغرب ( باب عاتكة ) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُشارك أصحابه عمارة المسجد كما تقدّم ذكره ، فكان ينقل الحجارة واللبن حتى أغبر صدره الشريف ، وبزيادته صلى الله عليه وسلم لمسجده يكون قد سنَّ لمن بعده الزيادة في المسجد إذا احتيج إلى ذلك .
في الأثر عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : " لو مُدَّ مسجده صلى الله عليه وسلم إلى صنعاء لكان مسجده " ، وظل المسجد النبوي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مفروش ، فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرْشَه بالحصباء ، وكان المسجد في عهده صلى الله عليه وسلم يُضاء في الليل بإيقاد سعف النخل فيه ، وظل على ذلك تسع سنين تقريباً ، حتى قدم تميم الداري إلى المدينة المنورة في سنة تسع من الهجرة ، فوجد المسجد يُضاء بسعف النخل ، وكان قد أحضر معه قناديل وحبالاً وزيتاً ، فعلق تلك القناديل بسواري المسجد ، وأوقدها فأضاءت المسجد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نوّرت مسجدنا نور الله عليك " .
وفي الحديث : " إن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبني باللبن ، وسقفه بالجريد ، وعمده من خشب النخل ، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً ، وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عُمَده خشباً .