في إسرائيل اليوم ، مجموعة من المؤرخين الذين يطلقون على أنفسهم اسم (المؤرخون الجدد) ، ويعد (بني موريس) ، مؤسسا لهذه المجموعة ، التي تسعى منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي ، لان تشكل ( مدرسة تاريخية جديدة ) ، تأخذ على عاتقها إعادة كتابة تاريخ االسيطرة الصهيونية على فلسطين في ضوء ما تكشف عنه المصادر والوثائق التي يزاح عنها النقاب في بريطانيا وغيرها . وإذا كان ما يكتشفه أولئك المؤرخين جديدا عليهم أو أنهم تجاهلوه ، فان المؤرخين العرب قد سبق لهم منذ مطلع القرن العشرين ، أن أصدروا مئات الكتب والدراسات التي ألقت الكثير من الأضواء على تاريخ الحركة الصهيونية في فلسطين ، والدور الذي قامت به الدول الامبريالية ، وفي مقدمتها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ، في تسهيل تحقيق تلك مطامع تلك الحركة على حساب حقوق ومستقبل شعب فلسطين .
لكن الوقوف عند أطروحات ( مدرسة المؤرخين الجدد في إسرائيل ) ، مهمة جدا ، لأنها تساعدنا في معرفة تفاصيل جديدة عن الوسائل الإرهابية التي استخدمت في عملية السيطرة ،وهذا مما يعزز النضال المشروع من اجل استعادة الحقوق العربية ، وتأكيد الطبيعة الاستعمارية للحركة الصهيونية . كما أن الاطلاع على تلك الأطروحات ومقارنتها بما يسمى (الرواية الإسرائيلية الرسمية) لأحداث حرب فلسطين 1947 ـ1948 ، وتأسيس دولة إسرائيل في أيار سنة 1948 يسهل مهمة إيجاد التناقض وأساليب التضليل التي رافقت نشر تلك الرواية الرسمية والمتمثلة ببعض المصادر وفي مقدمتها (تاريخ الهاغاناه)الذي وضعه يهودا سلوتسكي ، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب في ثمانية مجلدات تغطي الفترة 1919 ـ 1948، وكتاب ( تاريخ حرب الاستقلال) الذي أصدره قسم التاريخ في رئاسة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي .
ابتدأت المدرسة الجديدة بكتاب أصدره المؤرخ الإسرائيلي ، بني موريس بعنوان : ((قيام دولة إسرائيل وظهور مشكلة اللاجئين الفلسطينيين)) . وفي هذا الكتاب ربط بني موريس بين العمليات الإرهابية التي قامت بها المنظمات الصهيونية ومنها(شتيرن) و(الهاغاناه) من جهة ، واضطرار عدد من الأهالي في فلسطين للنزوح عن أرضهم , ومما جاء فيه : ((أن القوات الصهيونية العسكرية مارست أساليب طرد وتهجير لمئات الألوف من الفلسطينيين خلال حرب 1948 )) . وفي كتابيه : (حروب إسرائيل الحدودية) و(1948 وما بعدها : إسرائيل والفلسطينيون) اللذين أصدرهما سنتي 1993 و1994 على التوالي ، حاول بني موريس تبيان خطل الرواية الرسمية الصهيونية القائلة بان الفلسطينيين تركوا أرضهم استجابة لنداءات وجهها القادة العرب لهم حفاظا على حياتهم من عمليات القتال عقب حدوث المواجهة العسكرية بين الجيوش العربية والقوات الصهيونية منذ 15 من أيار 1948 .
ويؤكد (بني موريس) بأن القوات الصهيونية ومنها شتيرن والهاجاناه ، استخدمت كل وسائل العنف والتدمير والإرهاب ضد السكان العرب، وان القادة الصهاينة لم يكن يهمهم سوى الاستحواذ على الأرض والمياه الفلسطينية . وينقل عن (ديفيد بن غور يون) ، احد قادة الصهاينة ورئيس الحكومة ووزير الدفاع الإسرائيلي بعد ذلك ، قوله سنة 1937 : ((أننا نريد تهجير الفلسطينيين )) و (أن بإمكان الدول العربية توطينهم )) و ((انه يعمل من اجل فتـح أبواب فلسطين لهجرة مليون ونصف مليون يـهودي من أوربا )) .
قام مؤرخون آخرون منهم ( توم سيكاف) و ( آفي شليم) و (الان بابي) وينتمون إلى مدرسة (بنيموريس) نفسها بمتابعة محاولات أستاذهم في مجال إعادة النظر في ( الرؤية الرسمية المعتمدة في مجال نشوء الكيان الصهيوني ) ، وابرز ما فيها أن فلسطين كانت تعاني (فراغا سكانيا)، وان العرب عجزوا عن استثمار أراضيها !! وان اليهود (مساكين) وان (هم العرب وقادتهم إلقاء اليهود في البحر!!) وان إسرائيل واحة للديمقراطية وسط صحراء من الاستبداد) !! . وقد كتب (آفي شليم) وهو الآن أستاذ التاريخ بجامعة اوكسفورد حول ما اسماه: (اقتسام ارض فلسطين بين الأردنيين والفلسطينيين وان الاتفاق هذا ما كان ليحصل لولا أن السياسة البريطانية آنذاك لم تكن واضحة ، مما أعطى لإسرائيل فرصة تاريخية لتثبيت وجودها بعد فترة قصيرة من دخول الجيوش العربية الى فلسطين . ومما تجدر الإشارة إليه أن (تاريخ الهاغاناه) لسلوتسكي (تل أبيب 1972) وقد اشرنا إليه أنفا وظهرت ترجمته العربية في بيروت سنة 1984 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، يشير (ص224) إلى (ان الملك عبد الله تقابل مع ممثلة الدائرة السياسية للوكالة اليهودية ( غولدا مئير) قبل نحو أسبوعين من صدور قرار التقسيم سنة 1947 ، وأعلن عزمه على أن يضم إلى مملكته الجزء المخصص للعرب في مشروع التقسيم وان يقيم علاقات سلام وصداقة بالدولة اليهودية))!! .
لم تعجب الأطروحات التي قدمتها مدرسة المؤرخين الجدد ، زعماء الحركة الصهيونية والمسؤولين في (إسرائيل) فبدأوا بمهاجمتها وأوعزوا لعدد من مؤرخيهم وكتابهم للرد عليها . وكان من ابرز الذين تصدوا للمؤرخين الجدد (افرايم كارش) في كتابه (فبركة التاريخ الإسرائيلي) Fabricating Israeli History وكارش يعمل أستاذا في قسم الدراسات المتوسطية في كلية كنغز Kings بجامعة لندن . ومع أن كارش اعتمد وثائق دار السجلات البريطانية العامة (P.R.O) في لندن ومعظمها مؤيدة للصهاينة ، إلا أن كتابه جاء مليئا بالاتهامات والطعن في منهجية المؤرخين الجدد ونقد أسلوبهم في تفسير الأحداث وجهلهم باستخدام الوثائق . وقد هاجم كارش (بني موريس) لأنه لم يكن دقيقا ، في رأيه ، عندما نقل عن بن غوريون موقفه من تهجير الفلسطينيين وانتقد كارش (توم سيكاف) لأنه شكك في حادثة الهلوكوست (أي المحرقة) والتي استفادت منها الحركة الصهيونية في الضغط على سكان أوربا ودفعهم للهجرة إلى فلسطين ومحاولة تغيير تركيبتها السكانية .
دافع بني موريس عن نفسه، وكتب مقالا في مجلة الدراسات الفلسطينية التي تصدر في واشنطن (العدد الصادر شتاء 2998) ومما قاله أن (كارش) يعكس في كتاباته آراء المؤسسة التي عمل فيها لسنوات وهي (جهاز الاستخبارات العسكري الإسرائيلي ) .
ومهما يكن من أمر ، فان ما يجري بين المؤرخين الإسرائيليين قد يفسر على أنه في إطار ( حرية الفكر) ، و (امتصاص نقمة) بعض العرب من الداعين للحلول السلمية والتمهيد لدمج إسرائيل ضمن المنطقة وتيسير مهمة قبولها وتنفيذ أهدافها بعيدة المدى .. ومع أهمية ما يكتبه ممثلو ( المدرسة الجديدة ) فان الكثير مما كتبوه مسطر في مئات الكتب والدراسات التي أصدرها مؤرخون وكتاب عرب وأجانب منصفون وموضوعيون ومنهم على سبيل المثال (أكرم زغيتر) و (أميل الغوري) و(نجيب صدقة) و (عبد الوهاب ألكيالي) و (عبد الوهاب ألمسيري) و (يوسف هيكل) و (نجيب الأحمد ) ، كما أن كتاب جفريز الموسوم : ((فلسطين إليكم الحقيقة )) الذي ترجمه قبل سنوات الدكتور احمد عبد الرحيم مصطفى وحورب في أوربا عند ظهور طبعته الانكليزية منذ أواسط الخمسينات ، فيه الكثير من تفاصيل ما جرى لأهلنا في فلسطين، وقد تكون فرصة الاطلاع على ما يصدره (المؤرخون الجدد) في إسرائيل وخارجها مفيد لنضالنا من اجل إعادة الحقوق، وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم وتقرير مصيرهم شانهم في ذلك شان كل شعب حر ومستقل .